رواية النار و الماء .
الفصل الحادى و العشرون .
لقد وصلنا فى الفصل الماضى عندما رفضوا بنى اسرائيل ان يقتلوا مع سيدنا موسى عليه السلام عندما امرهم الله بذلك فعقابهم الله انهم اصبحوا تائهين فى الارض اربعين عام حتى عفا الله عنهم بعد ذلك .واعد الله بني إسرائيل أن ينزلوا بصحبة نبيهم موسى عليه السلام إلى جانب جبل الطور الأيمن ، حيث يتكلم الله مع موسى و ينزل عليه أحكاماً للمؤمنين ليتبعوها و تكون فيها مصلحة دنياهم و أخراهم ، و واعد الله موسى أن يلتقي به بعد 30 يوماً يصومها موسى قبل لقاء الله هي شهر ذو القعدة ثم أتممها الله بعشر ذي الحجة .
كانت هذه المنطقة صحراوية ليس فيها زرع ولا ضرع ، فأنزل الله عليهم كل صباح مناً من السماء ، و اشترط الله عليهم ألا يأخذوا منه إلا على قدر حاجتهم ، و من ادخر أكثر من حاجته فسد ، و هذا المن يصنعون منه مثل الخبز ، و هو في غاية البياض و الحلاوة ، و عند المساء يغشاهم طير السلوى ، فيقتنصون منها بلا كلفة ما يحتاجون إليه حسب كفايتهم لعشائهم ، و ظلل الله عليهم غمام السحاب لوقايتهم من حر الشمس ، و أنبع الله لهم ينابيع الماء ، يضرب موسى حجراً بالعصا ، فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً ، لكل سبط عينٌ منه تنبجس ، ثم تتفجر ماء زلالاً فيستقون فيشربون و يسقون دوابهم ، و يدخرون كفايتهم .
رغم هذه النعم العظيمة إلا أن بني إسرائيل لم يرعوها حق رعايتها ، ولا قاموا بشكرها و حق عبادتها ، فقد اضجر الكثير منهم و تبرموا بها ، و سألوا موسى أن يستبدل لهم هذا الطعام بطعام آخر مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها و فومها و عدسها و بصلها ، فقرعهم موسى و وبخهم و قال :
أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ إذن اهبطوا من هذه المرتبة التي رفعكم الله إياها و انزلوا أى مصر تجدون ما تشتهون و ما تذكرون من المآكل الدنية و الأغذية الردية ، لكني لن أجيبكم لطلبكم في هذه الأرض ، فمن يطغ يحلل عليه غضب الله و يهوى ، أما من تاب و آمن و عمل صالحاً و اهتدى فالله غفور رحيم .
لما استكمل موسى ميقات ربه 30 يوماً حيث كان صائماً و لم يستطعم الطعام ، فلما كمل الشهر أخذ لحاء شجرة فمضغه ليطيب ريح فمه ، فأمره الله أن يمسك عشراً أخرى ، فصارت أربعين ليلة ، فلما عزم على الذهاب للقاء الله استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون ، و قال له :
يا هارون اخلفني في قومي و أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين .
و لما ذهب موسى لميقات ربه ، دب الانحراف في بني إسرائيل و تولى كبر هذا الضلال رجل يدعى هارون السامري ، حيث جمع حلي بني إسرائيل الذي غنموه من آل فرعون و صاغ منها عجلاً ، ثم أخذ قبضة من تراب زعم أنها كانت من أثر فرس جبريل حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه ، فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي ، حيث كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كمن تخور البقرة ، فلما شاهد بنو إسرائيل ذلك فرحوا و رقصوا و بلغ ضلالهم و سوء أدبهم أن قالوا :
هذا إلهكم و إله موسى ، و قد ذهب و نسى أن الإله هنا .
و قد ظلم بنو إسرائيل أنفسهم حين اتخذوا العجل و هو لا يملك لهم قولاً ولا يملك ضراً ولا نفعاً ، و لما رأى نبى الله هارون شقيق موسى عليهما السلام ما صنع القوم نهاهم أشد النهي و زجرهم على سوء صنيعهم ، و قال : يا قوم إنما فتنتم بهذا العجل ، و ما هو بإله ، إنما ربكم الرحمن ، فاتبعوني و أطيعوا أمري .
لكنهم استضعفوا هارون و عصوه و لم يتبعوا أمره بل ساءوا الأدب معه و كادوا أن يقتلوه ، و قالوا :
سنظل عاكفين على هذا العجل حتى يرجع إلينا موسى .
و لما جاء موسى لميقات الله ، كلمه الله من وراء حجاب ، إلا أنه أسمعه الخطاب ، فناداه و ناجاه ، و قربه و أدناه ، و هذا مقام رفيع و معقل منيع ، فلما أعطى هذه المنزلة العلية و سمع الخطاب ، سأل رفع الحجاب ، فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار :
رب أرني أنظر إليك .
فقال تعالى : لن تراني ، و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني .
فلما تجلى الله للجبل جعله دكاً و خر موسى صعقاً مغشياً عليه ، فلما أفاق قال :
سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين ، قال الله تعالى :
يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي ، فخذ ما أتيتك بقوة و كن من الشاكرين .
و كتب الله لموسى التوراة في الألواح و فيها مواعظ عن الآثام و تفاصيل لكل شيء ، و قال : يا موسى خذها بعزم و قوة و نية خالصة ، و أمر قومك يأخذونها بأحسن وجه و أجمل محمل ، و يذكروا نعمتي التي أنعمت عليهم و يوفوا بعهدي ، و إياي فليرهبون ، و حذرهم أن يكفروا بآياتي أو أن يشتروا بها ثمناً قليلاً ، و سأريكم عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري .
نظر موسى في الألواح و قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر ، رب اجعلهم أمتي ، قال الله : تلك أمة أحمد .
و سأل موسى ربه : يا رب أي عبادك أتقى ؟
قال : الذي يذكر ولا ينسى .
قال : فأي عبادك أهدى ؟ قال : الذي يتبع الهدى . قال : فأي عبادك أحكم ؟ قال : الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه .
قال : فأي عبادك أعلم ؟ قال : عالم لا يشبع من العلم ، يجمع علم الناس إلى علمه .
قال : فأي عبادك أعزّ ؟ قال : الذي إذا قدر غفر . قال : فأي عبادك أغنى ؟ قال : الذي يرضى بما يؤتى .
قال : فأي عبادك أفقر ؟ قال : صاحب منقوص ”.
قال موسى :
يا رب علمني شيئاً أذكرك به و أدعوك به .
قال : قل يا موسى لا إله إلا الله .
قال : يا رب كل عبادك يقول هذا .
قال : قل لا إله إلا الله ، قال : إنما أريد شيئاً تخصني به .
قال : يا موسى لو أن أهل السماوات السبع و الأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهم لا إله إلا الله ”.
ثم قال تعالى : و ما أعجلك عن قومك يا موسى ؟
قال : هم أولاء على أثري و عجلت إليك رب لترضى .
قال : فإنا قد فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري ، و اتخذ لهم عجلاً يعبدوه .
فغضب موسى غضباً شديداً من سوء صنيع بني إسرائيل من بعده .
كان بنو إسرائيل قد أدركوا سوء صنيعهم إذ وجدوا أن العجل لا ينفع ولا يضر ، و علموا أنهم قد ضلوا و أخطأوا فندموا على ما فعلوا و قالوا : لئن لم يرحمنا ربنا و يغفر لنا لنكونن من الخاسرين .
و لما رجع موسى إليهم ، كان غضبان أسفاً ، فلما دخل عليهم ألقى الألواح من شدة غضبه ، و عنفهم و وبخهم و هجنهم في صنيعهم هذا القبيح و قال :
بئس ما خلفتموني من بعدي ، ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً ؟ أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ؟. فاعتذروا إليه ، و قالوا :
ما أخلفنا موعدك ، و لكنا قد حمل علينا أوزاراً من زينة و حلى آل فرعون فرميناها للسامري ثم فعل بها ما فعل .
ثم أقبل موسى على أخيه هارون و أخذ برأسه يجره إليه قائلاً :
يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن تمنعهم و تلحق بي لتخبرني ؟
قال هارون : يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ، إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني ، و إني خشيت أن تقول لي لم تركتهم وحدهم بعدما استخلفتك عليهم ، فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين .
فقال موسى : رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين .
ثم أقبل موسى على السامري قائلاً :
ما خطبك يا سامري ؟ و ما الذي حملك على ما صنعت ؟
قال : إني رأيت ما لم يروه ، حيث بصرت جبرائيل و هو راكب فرساً ، فأخذت قبضة من التراب الذي عليه أثر فرس جبرائيل فرميتها و كذلك سولت لي نفسي .
فقال موسى : فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس ، و إن لك موعداً يوم القيامة لن تخلفه ، و انظر إلى إلهك الذي ظللت عليه عاكفاً ، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا .
فعمد موسى عليه السلام إلى هذا العجل، فحرقه بالنار ، و نسفه نسفاً ثم رماه في البحر ، و قال : إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً ، إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم و ذلة في الحياة الدنيا ، و هو جزاء المفترين على الله الكذب ، لكن الذين تابوا بعدها و آمنوا فإن الله غفور رحيم .
و لما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح و في نسختها التوراة هدىً و رحمة للذين يخافون الله ، فأمر بني إسرائيل أن يأخذوها بقوة و عزم ، فقالوا :
انشرها علينا فإن كانت أوامرها و نواهيها سهلة قبلناها .
فقال : إن أمر الله يقبل كله بكل ما جاء فيه . فراجعوه مراراً ، فأمر الله الملائكة فرفعت الجبل على رؤوسهم حتى صار كأنه ظله ، أي غمامة ، على رؤوسهم ، و قيل لهم إن لم تقبلوها بما فيها سيسقط هذا الجبل عليكم ، فخافوا و قبلوا ذلك و أعطوا مواثيقهم و أمروا بالسجود فسجدوا فجعلوا ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم ، لكنهم تولوا بعد ذلك فكانوا من الخاسرين .
و نزل العقاب على الذين عبدوا العجل بأن أمرهم الله بالتوبة و قتل أنفسهم ، و اختار موسى سبعين من علماء بني إسرائيل ليذهبوا معه للقاء الله في ميقات حدده الله تعالى ، ليعتذروا عن بني إسرائيل و ما ارتكبوه من عبادة العجل .
أمر موسى السبعين رجلاً من علماء بني إسرائيل أن يصوموا و يتطهروا و يطهروا ثيابهم و ينطلقوا معه إلى الله فيتوبوا إليه و يسألوه المغفرة على ما فعل قومهم من عبادة العجل ، فخرج بهم إلى طور سيناء ، فطلب منه السبعون أن يسمعوا كلام الله ،
فقال : أفعل .
فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، و دنا موسى فدخل في الغمام ، و قال للقوم : ادنوا .
و كان موسى إذا كلمه الله ، وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه ، فضرب دونه الحجاب ، و دنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً ، فسمعوه و هو يكلم موسى ، يأمره و ينهاه : افعل ولا تفعل .
لما فرغ الله من أمره و انكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم فقالوا :
يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة . فأخذتهم الرجفة ، و هي الصاعقة فأتلفت أرواحهم فماتوا جميعاً .
فقام موسى يناشد ربه و يدعوه ، و يرغب إليه و يقول :
رب لو شئت أهلكتهم و إياي ، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء و تهدي بها من تشاء أنت و لينا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الغافرين و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة إنا هدنا إليك .
قال الله : عذابي أصيب به من أشاء من عبادي و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون .
بقرة بني إسرائيل .
كان في بني إسرائيل شيخ كبير ، كثير المال ، و كان أولاد أخيه يتمنون موته ليرثوه ، فعمد أحدهم فقتله ليلاً و رماه في مجمع الطرق ، فلما أصبح الناس اختصموا فيه ، و جاء ابن أخيه فجعل يصرخ و يتظلم ، فقالوا :
مالكم تختصمون ولا تأتون نبي الله ، فاستجاب لهم و ذهب لموسى و طلب منه أن يسأل ربه عن أمر هذا القتيل .
فقال موسى : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة . قالوا : أتتخذنا هزواً .
قال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين .
لكن بنو إسرائيل لم يستجيبوا لأمر الله على الفور و إنما سألوا :
ادع لنا ربك يبين لنا ماهي ؟
قال : إنه يقول إنها بقرة لا فارض ( ليست كبيرة ) ولا بكر ( ليست صغيرة ) و إنما وسط بين ذلك ، فافعلوا ما تؤمرون .
قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟
قال : إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين .
و كان هذا اللون قليل في البقر .
قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟ إن البقر تشابه علينا و إنا إن شاء الله لمهتدون .
قال : إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث ( أي ليست مذللة بحراثة وسقي الأرض ) مسلمة لا شية فيها ( أي صحيحة ليس فيها عيب ) .
قالوا : الآن جئت بالحق .
بحث القوم عن بقرة بهذه المواصفات ، فلم يجدوا إلا بقرة واحدة عند رجل منهم كان باراً بأبيه ، فطلبوها منه فرفض ، فأرغبوه في ثمنها و عرضوا قيمة غالية جداً في الثمن حتى اشتروها منه ، فلما جاءوا بالبقرة لنبي الله ، أمرهم أن يذبحوها ، فذبحوها و هم مترددون في أمرها ، ثم أمرهم موسى أن يأخذوا بعضاً منها و يضربوا به على القتيل ، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله تعالى ، فقام و هو يشخب أوداجه ، فسأله نبي الله موسى من قتلك ؟
قال : قتلني ابن أخي .
ثم عاد ميتاً كما كان ، و كانت آية من آيات الله لبني إسرائيل أن يروا كيف يحي الله الموتى لعلهم يعقلون .
يا ترى ايه هيحصل تانى ؟
انتظروا الفصل القادم .
يتبع .
************
x