رواية النار و الماء .
الفصل الخامس عشر .
وصلنا الفصل الماضى عندما التقى يوسف ب والده و احتضوا بعضهم بشوق جارف يبث به شوق و حب و حزن سنوات مضت ، عدم ذكر يوسف القصة ما حدث مع ل والده .
قال يعقوب ليوسف : يا بُني حدّثني كيف صنع بك إخوتك ؟!
فرد عليه يوسف و هو يقول .
قال : يا أبت دعني .
طلب يوسف من والده ان ينسى الأمر فأنه من الماضى و انتهى ، و لكن يعقوب عليه السلام لم يكتفئ بهذا و قال له .
فقال : أقسمت عليك إلا أخبرتني !
فعندما اقسم عليه والده ، اخذ يوسف يقص على والده ما حدث معه طوال هذه السنوات .
فقال له : أخذوني و أقعدوني على رأس الجب ، ثم قالوا لي : انزع قميصك ، فقلت لهم إني أسألكم بوجه أبي يعقوب أن لا تنزعوا قميصي ولا تبدوا عورتي ، فرفع فلان السكّين عليّ ، و قال : انزل .
فصاح يعقوب فسقط مغشيًّا عليه ثمّ أفاق ، فقال له : يا بني كيف صنعوا بك ؟!
توسله يوسف ان يكف عن الحديث فهو يعلم ان والده لن يتحمل ان يسمع ما عانه .
فقال يوسف : إنّي أسألك بإله إبراهيم و إسماعيل و إسحاق إلاّ أعفيتني فتركه .
و هذا الأمر يدل على أن يوسف لم يرغب بأي وجه أبدًا أن يعيد في ذهنه أو ذهن أبيه الماضي المرير ، بالرغم من أن رغبة يعقوب في التقصّي عن الأمر لم تدعه يستقرّ .
و قال البعض الآخر : كان ذلك للرؤيا التي رآها يعقوب من قبل و هي أن ذئابًا هجمت على ولده يوسف .
و هناك احتمال آخر هو أن يعقوب أجابهم بلسان الكناية ، و المقصود من الذئاب في كلامه الأناس المتصفون بصفة الذئب إخوة يوسف .
و لكن هذا الأمر مألوف فإن السُراق أو أولئك الذين تأتيهم بضاعة مهمّة دون أي تعب و نصب يبيعونها سريعًا لئلا يطلع الآخرون .
و من الطبيعي أنهم لا يستطيعون بهذه الفورية أن يبيعوه بسعر غالٍ .
من عجائب القرآن و واحدة من أدّلة الإعجاز ، أنه لا يوجد في تعبيره ركّة و ابتذال و عدم العفّة و ما إلى ذلك كما أنه لا يتناسب مع أسلوب الفرد العادي الأُمي الذي تربى في محيط الجاهلية ، مع أن حديث كل أحد يتناسب مع محيطه و أفكاره !.
و بين جميع قصص القرآن و أحداثه التي ينقلها توجد قصة غرام و عشق واقعية ، و هي قصة ( يوسف وامرأة عزيز مصر ) .
قصة تتحدث عن عشق امرأة جميلة والهة ذات أهواء جامحة لشاب جميل طاهر القلب .
الكتاب حين يواجهون مثل هذا الأمر . . إمّا أن يتحدثوا عن أبطال القصة بأن يطلقوا للقلم أو اللسان العنان ، حتى تظهر في ( البين ) تعابير مثيرة و غير أخلاقية كثيرة .
و إمّا أن يحافظوا على العفّة و النزاهة في القلم و اللسان ، فيحولّوا القصة إلى القراء أو السامعين بشكل غامض و مبهم .
فالكاتب مهما كان ماهرًا يبتلي واحدًا من هذين الإشكالين ، ترى هل يعقل أن فردًا لم يدرس يرسم رسمًا دقيقًا و كاملاً للفصول مثل هذا العشق المثير ، دون أن يستعمل أقل تعبير مهيِّج و بعيد عن العفّة ؟!
و لكن القرآن يمزج في رسم هذه الميادين الحسّاسة من هذه القصة ? بأسلوب معجب ? الدّقة في البيان مع المتانة و العفة دون أن يغض الطرف عن ذكر الوقائع ، أو أن يظهر العجز ، و قد استعمل جميع الأصول الأخلاقية و الأمور الخاصّة بالعفّة .
و نعرف أن أخطر ما جرى في القصة ما جرى في ( خلوة العشق ) و ما أظهرته امرأة العزيز بابتكارها و هواها .
و القرآن يتناول كل ما جرى من حوادث و يتحدّث عنها دون أن يظهر أقل انحراف من أصول العفّة .
و بديهي أن مثل هذا التوسّل للنجاة من السجن و من سائر المشاكل ، ليس أمرًا غريبًا بالنسبة للأفراد العاديين ، و هو من قبيل التوسّل بالأسباب الطبيعية ، و لكن بالنسبة للأفراد الذين هم قدوة و في مكانة عالية من الإيمان و التوحيد ، لا يمكن أن يخلو من إيراد ، و لعلّ هذا كان سببًا في بقاء يوسف في السجن بضع سنين ، إذ لم يرض الله سبحانه ليوسف ( ترك الأولى )!.
و برغم أن الآية رقم ( 88 ) تقول : إن إخوة يوسف حينما دخلوا عليه نادوه باسم ﴿ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ﴾ و هذا دليل على أنه استقل بمنصب عزيز مصر ، و لكن نقول : لا مانع من أن يكون يوسف قد ارتقى سلّم المناصب تدريجًا حيث كان في أول الأمر مشرفًا على الخزائن ، ثم جُعل الوزير الأول ، و أخيرًا صار ملكًا على مصر .
إن أول ما يتبادر إلى الذهن هو أنه لماذا لم يعرّف يوسف نفسه لإخوته ، حتى يقفوا على حقيقة حاله و يرجعوا إلى أبيهم و يخبرونه عن مصير يوسف ، و بذلك تنتهي آلامه لأجل فراق يوسف ؟
و يمكن طرح هذا السؤال على شكل أوسع و بصورة أخرى ، و هو أنه حينما التقى يوسف بإخوته في مصر كان قد مر ثمان سنوات على تحريره من السجن ، حيث كان في السنة الأولى من سنوات القحط و الجدب ، التي أعقبت سبع سنوات من الوفرة و الرخاء ، و قام بخزن المنتوجات الزراعية ? و في السنة الثامنة أو بعدها ? جاء أخوة يوسف إلى مصر لشراء الحبوب ، فلماذا لم يحاول يوسف خلال هذه السنوات الثمان أن يبعث إلى كنعان من يخبر أباه بواقع حاله و يخرجه عن آلامه و ينهي مرارته الطويلة ؟
حاول جمع الأجوبة على هذا السؤال ، و ذكروا له عدّة أجوبة ، و لعلّ أحسنها و أقربها هو أن يوسف لم يكن مجازًا من قبل الله سبحانه و تعالى في إخبار أبيه ، لأن قصة يوسف مع غض النظر عن خصائصه الذاتية كان ساحة لاختبار يعقوب و حقلاً لامتحانه ، فلا بد من أن يؤدي يعقوب امتحانه و يجتاز فترة الاختبار قبل أن يسمح ليوسف بإخباره ، و إضافة إلى هذا فإن إسراع يوسف في إخبار إخوته قد يؤدي إلى عواقب غير محمودة ، مثلاً قد يستولي عليهم الخوف و الهلع من انتقام يوسف منهم لما ارتكبوه سابقًا في حقه فلا يرجعوا إليه .
لكن تظهر الإجابة على هذا السؤال إذا لاحظنا أنه قد مضى ثلاثون إلى أربعون سنة على حادثة يوسف ، و قد صار أخوة يوسف الشبّان كهولاً ، و من الطبيعي أنهم نضجوا أكثر من السابق ، كما وقفوا على الآثار السلبية لما فعلوه مع يوسف ، سواء في داخل أُسرتهم أم في وجدانهم ، حيث أثبتت لهم تجارب السنين السالفة أن فقد يوسف كان لا يزيد حب أبيهم لهم ، بل ازداد نفوره منهم و خلق لهم مشاكل جديدة .
إضافة إلى هذه الأمور فإن يعقوب لم يواجه طلبًا للخروج إلى التّنزه و الصيد ، بل كان يواجه مشكلة مستعصية مستفحلة ، و هي إعداد الطعام لعائلة كبيرة و في سنوات القحط و المجاعة .
فمجموع هذه الأمور أجبرت يعقوب على الرضوخ لطلب أولاده و الموافقة على سفر بنيامين و لكنه أخذ منهم العهود و المواثيق على أن يرجعوه سالمًا .
لماذا اتهم يوسف أخاه؟
هل يجوز شرعًا أن يتهم الإنسان بريئًا لم يرتكب ذنبًا ، و لم تقتصر آثار هذه التهمة على البريء وحده ، بل تشمل الآخرين من قريب أو بعيد ؟ كما هو الحال في يوسف حيث شمل اتهامه الأخوة و سبّب لهم مشاكل عديدة .
يمكن معرفة الجواب بعد وقوفنا على أن توجيه هذه التهمّة لبنيامين كان باتفاق مسبق بينه و بين يوسف ، و كان عارفًا بأن هدف الخطة و توجيه التهمة إليه لأجل بقائه عند يوسف ، أما بالنسبة للآثار السلبية المترتبة على الأخوة فإن اتهام بنيامين بالسرقة لم يكن في الواقع اتهامًا مباشرًا لأخوته و إن سبّب لهم بعض التشويش و القلق ولا مانع من ذلك بالنظر إلى امتحان مهم .
لماذا اتهام الجميع بالسرقة ؟
مرّ علينا في الآية الشريفة قوله تعالى :
﴿ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ ، و هذه في الواقع تهمة موجّهة إلى الجميع و هي تهمة كاذبة ، فما المسوِّغ و المجوِّز الشرعي لهذا الاتهام الباطل ؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال في عدّة نقاط و هي : إن قائل هذه الجملة غير معلوم ، حيث ورد في القرآن إنه ( قالوا... ) و لعلّ القائلين هم بعض الموظفين من عمّال يوسف و المسئولين عن حماية خزائن الحبوب ، فهم حينما افتقدوا صواع الملك ، اطّمأنوا بأن السارق هو أحد أفراد القافلة القادمة من كنعان ، فوجّهوا الخطاب إليهم جميعًا ، و هذا من الأمور الطبيعية ، فحينما يقوم شخص مجهول في ضمن مجموعة معينة بعمل ما ، فإن الخطاب يُوجه إليهم جميًا و يقال لهم : أنكم فعلتم هذا العمل ، و المقصود إن أحد هذا المجموعة أو بعضها قد فعل كذا .
الطرف الذي وجّهت إليه التهمة و هو بنيامين ، كان موافقًا على توجيه هذه التهمة له ، لأن التهمة كانت مقدمة للخطة المرسومة و التي كانت تنتهي ببقائه عند أخيه يوسف ، و أما شمول الاتّهام لجميع الأخوة و دخولهم جميعًا في دائرة الظن بالسرقة ، فإن كل ذلك كان اتّهامًا مؤقتًا حيث زالت بمجرّد التفتيش و العثور على الصواع و ظهر المذنب الواقعي .
كيف أحسّ يعقوب برائحة يوسف ؟
هذا سؤال أثاره الكثير ، و اعتبروه معجزة خارقة للعادة من قبل يعقوب أو يوسف .
إلا أنه ? مع الأخذ بنظر الاعتبار سكوت القرآن عن هذا الأمر ? و لم يتناوله على أنه أمر إعجازي أو غير إعجازي فمن الهيّن أن نجد له توجيهًا علميًّا أيضًا .
إذ إن حقيقة ( التليبائي ) أو انتقال الفكر من النقاط أو الأماكن البعيدة تُعدّ مسألة علميّة قطّعيّة مسلّمًا بها . . و إنها تحدث عند من تكون لديهم علاقة قريبة تربط ببعضهم بعض ، أو تكون لديهم قدرة روحية عالية .
و لعلّ كثيرًا منّا يواجه مثل هذه المسألة في حياتنا اليوميّة ، و ذلك أن يشعر شخص ( من أب أو أم ، أو أخ ) مثلاً بالكآبة و انقباض النفس دون سبب ، ثم لا يمضي وقت ? أو فتة ? حتى يبلغه خبر بأن أخاه أو ولده قد حدث له حادث ما في نقطة بعيدة غنه .
فالعلماء يوجّهون هذا الإحساس على أنه جرى عن طريق انتقال الفكر .
و مما ورد في قصّة يعقوب لعلّه من هذا القبيل أيضًا ، فعلاقته الشديدة بيوسف و عظمة روحه ، كل ذلك كان سببًا لأن يشعر بالحالة الحاصلة للأخوة نتيجة حمل قميص يوسف من مسافة بعيدة . . و من الممكن أن يتعلّق هذا الأمر بمسألة سعة دائرة علم الأنبياء أيضًا .
و قد وردت إشارة طريفة ? في بعض الروايات ? إلى مسألة انتقال الفكر ، و هي أن بعضهم سأل الإمام أبا جعفر الباقر ( ع ) فقال : جُعلت فداك ، رُبما حزنت من دون مصيبة تصيبني أو أمر ينزل بي ، حتى يعرف ذلك أهلي في وجهي و صديقي .
فقال ( ع ) : ( نعم يا جابر ، إن الله خلق المؤمنين من طينة الجنان و أجرى فيهم من ريح روحه ، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه و أمه ، فإذا أصاب روحًا من تلك الأرواح في بلد من البلدان حُزنٌ حزنت هذه لأنها منها ) .
و يستفاد من بعض الروايات أيضًا أن هذا القميص لم يكن قميصًا مألوفًا ، بل كان ثوبًا من ثياب الجنّة ، و قد خلّفه إبراهيم الخليل عليه السلام في آل يعقوب و أسرته ليكون ذكرى له ، و أن رجلاً كيعقوب عليه السلام الذي كانت له شامّة من ( الجنّة ) أحسّ برائحة هذا الثوب الذي هو من ثياب الجنّة من بعيد .
السؤال المعروف الآخر هنا هو ما أثاره بعضهم في شأن يعقوب و هو :
كيف يمكن أن يكون هذا النبي العظيم قد أحسّ بريح قميص يوسف من مسافة قدّرها بعضهم بثمانين فرسخًا و قال بعضهم : من مسافة عشرة أيام ، مع أنه لم يطلِّع على الحوادث القريبة منه التي مرّت على يوسف عندما أُلقي في الجب في أرض كنعان ؟ و الجواب على هذا السؤال يسير لا غبار عليه ، لأن علمهم بالأمور الغيبيّة يستند إلى علم الله و إرادته ، و ما يشاء الله لهم من العلم ( أو عدمه ) حتى و لو كان ذلك في أقرب نقطة من نقاط العالم .
فيمكن تشبيههم من هذا الوجه بالقافلة التي تسير في ليل مظلم في صحراء تغشيها الغيوم و بينما على هذه الحالة و إذا السماء تومض بالبرق اللامع فتضيء الصحراء إلى منتهى أطرافها ، فترى القافلة بأمّ أعينها كل شيء أمامها ، إلا أن البرق ينطفئ ثانيةً و يستوعب الظلام كل مكان فلا يرى أحد شيئًا .
و لعلّ الحديث الوارد عن الإمام الصادق ( ع ) في شأن علم الإمام ( ع ) إشارة إلى هذا المعنى ، إذ جاء عنه ( ع ) أنه قال : ( جعل الله بينه و بين الإمام عمودًا من نور ، ينظر الله به إلى الإمام ، و ينظر الإمام به إليه ، فإذا أراد علم شيء نظر في ذلك النور فعرفه ) .
و مع الالتفات إلى هذه الحقيقة فلا مجال للتعجب بأن تقتضي مشيئة الله سبحانه ? لابتلاء يعقوب و تمحيصه أن لا يعرف يومًا شيئًا عن الحوادث في كنعان و هي تجري قريبًا منه ، و أن يحسّ برائحة قميص ولده يوسف و هو في مصر في يوم آخر عندما قُدِّر له أن تنتهي محنته و بلواه .
كيف رُدَّ على يعقوب بصره ؟!
احتمل البعض أن يعقوب عليه السلام لم يفقد بصره بصورة كليّة ، و إنما ضعف بصره ، و عند حصول مقدمات الوصال تبدّل تبدلاًّ بحيث عاد ذلك البصر إلى حالته الطبيعية الأولى إلا أن ظاهر آيات القرآن يدل على أنه فقد بصره تمامًا و ابيضّت عيناه من الحزن ، و على ذلك فإن بصره عاد إليه عن طريق الإعجاز حيث يقول القرآن الكريم : ﴿ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ﴾ .
ايه رايكم فى طريقة سرد الأحداث ؟
انتظروا الفصل القادم .
يتبع .
***************