رواية النار و الماء .
الفصل السابع .
ماذا رأه الملك فى قصة سيدنا يوسف ؟ من هو الفرعون الذى يوجد فى قصة سيدنا يوسف ؟
لقد وصلنا فى الفصل الماضى عندما رأه الملك رأيه فى منامه و طلب من حاشيته و الكهنه أن يفسروا له معنى هذا الحلم ، و لكنهم تهربوا من تفسير ، لا نعلم هل بسبب خوفهم أن يبلغوا الملك أن هذا الحلم يحمل معنى سئ و هم الذين اعتادوا دائما أن يخبروه كل ما يسره و يفرحه ، أم أنهم بالفعل لا يعلمون تفسير هذا الحلم .
وصل الخبر إلى الساقي - الذي نجا من السجن ، تداعت أفكاره و ذكره حلم الملك بحلمه الذي رآه في السجن ، و ذكره السجن بتأويل يوسف لحلمه . . و أسرع إلى الملك و حدثه عن يوسف . قال له :
إن يوسف هو الوحيد الذي يستطيع تفسير رؤياك ، لقد أوصاني أن أذكره عندك و لكنني نسيت .
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } .
و أرسل الملك ساقيه إلى السجن ليسأل يوسف ، و يبين لنا الحق سبحانه كيف نقل الساقي رؤيا الملك ليوسف بتعبيرات الملك نفسها ، لأنه هنا بصدد تفسير حلم ، و هو يريد أن يكون التفسير مطابقا تماما لما رءاه الملك .
و كان الساقي يسمي يوسف بالصديق ، أي الصادق الكثير الصدق . . و هذا ما جربه من شأنه من قبل .
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } .
جاء الوقت و احتاج الملك إلى رأيه .
( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) .
سئل يوسف عن تفسير حلم الملك . . فلم يشترط خروجه من السجن مقابل تفسيره ، لم يساوم و لم يتردد و لم يقل شيئا غير تفسير الرؤيا ، هكذا ببراءة النبي حين يلجأ إليه الناس فيغيثهم . . و إن كان هؤلاء أنفسهم سجانيه و جلاديه . . و كلام يوسف هنا ليس التأويل المباشر المجرد ، إنما هو التأويل و النصح بمواجهة عواقه . و هذا أكمل :
{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ( 47 ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ( 48 ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } .
أفهم يوسف رسول الملك أن مصر ستمر عليها سبع سنوات مخصبة تجود فيها الأرض بالغلات . . و على المصريين ألا يسرفوا في هذه السنوات السبع ، لأن و راءها سبع سنوات مجدبة ستأكل ما يخزنه المصريون ، و أفضل خزن للغلال أن تترك في سنابلها كي لا تفسد أو يصيبها السوس أو يؤثر عليها الجو .
بهذا انتهى حلم الملك . . و زاد يوسف تأويله لحلم الملك بالحديث عن عام لم يحلم به الملك ، عام من الرخاء . . عام يغاث فيه الناس بالزرع و الماء ، و تنمو كرومهم فيعصرون خمرا ، و ينمو سمسمهم و زيتونهم فيعصرون زيتا .
كان هذا العام الذي لا يقابله رمز في حلم الملك . . علما خاصا أوتيه يوسف ، فبشر به الساقي ليبشر به الملك و الناس .
عاد الساقي إلى الملك ، أخبره بما قال يوسف ، دهش الملك دهشة شديدة ، ما هذا السجين.. ؟
إنه يتنبأ لهم بما سيقع ، و يوجههم لعلاجه . . دون أن ينتظر أجرا أو جزاء ، أو يشترط خروجا أو مكافأة .
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } .
أصدر الملك أمره بإخراج يوسف من السجن و إحضاره فورا إليه .
ذهب رسول الملك إلى السجن ، ولا نعرف إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة ، أم أنه شخصية رفيعة مكلفة بهذه الشؤون ، ذهب إليه في سجنه . . رجا منه أن يخرج للقاء الملك ، فهو يطلبه على عجل .
رفض يوسف أن يخرج من السجن إلا إذا ثبتت براءته ، لقد رباه ربه و أدبه ، و لقد سكبت هذه التربية و هذا الأدب في قلبه السكينة و الثقة و الطمأنينة .
و يظهر أثر التربية واضحا في الفارق بين الموقفين :
الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى :
اذكرني عند ربك ، و الموقف الذي يقول فيه : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتي قطعن أيدهن . . الفارق بين الموقفين كبير .
تجاوز السياق القرآني عما حدث بين الملك و رسوله ، و ردة فعل المللك . . ليقف بنا أمام المحاكة ، و سؤال الملك لنساء الطبقة العليا عما فعله مع يوسف :
{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } .
يبدوا أن الملك سأل عن القصة ليكون على بينة من لامر و ظروفه قبل أن يبدأ التحقيق ، لذلك جاء سؤاله دقيقا للنساء ، فاعترف النساء بالحقيقة التي يصعب إنكارها :
{ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ } .
و هنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف ، التي يئست منه ، و لكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به . . تتقدم لتقول كل شيء بصراحة :
{ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( 51 ) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } .
يصور السياق القرآني لنا اعتراف امرأة العزيز ، بألفاظ موحية ، تشي بما وراءها من انفعالات و مشاعر عميقة .
( أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) .
شهادة كاملة بإثمها هي ، و براءته و نظافته و صدقه هو .
شهادة لا يدفع إليها خوف أو خشية أو أي اعتبار آخر . . يشي السياق القرآني بحافز أعمق من هذا كله ، حرصها على أن يحترمها الرجل الذي أهان كبرياءها الأنثوية ، و لم يعبأ بفتنتها الجسدية .
و محاولة يائسة لتصحيح صورتها في ذهنه ، لا تريده أن يستمر على تعاليه و احتقاره لها كخاطئة ، تريد أن تصحح فكرته عنها :
( ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) .
لست بهذا السوء الذي يتصوره فيني ، ثم تمضي في هذه المحاولة و العودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف و يقدرها .
( وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) .
و تمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة :
{ وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
إن تأمل الآيات يوحي بأن امرأة العزيز قد تحولت إلى دين يوسف ، تحولت إلى التوحيد .
إن سجن يوسف كان نقلة هائلة في حياتها ، آمنت بربه و اعتنقت ديانته ، و أحبته على البعد ، و ما زالت هي المرأة العاشقة التي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه ، أو خاطرة ارتياح .
و لو بالغيب و على البعد . . و دون لقاء أو أمل في لقاء .
و يصدر الأمر الملكي بالإفراج عنه و إحضاره ،
يهمل السياق القرآني بعد ذلك قصة امرأة العزيز تماما ، يسقطها من المشاهد ، فلا نعرف ماذا كان من أمرها بعد شهادتها الجريئة التي أعلنت فيها ضمنا إيمانها بدين يوسف .
و قد لعبت الأساطير دورها في قصة المرأة . . قيل : إن زوجها مات و تزوجت من يوسف ، فاكتشف أنها عذراء ، و اعترفت له أن زوجها كان شيخا لا يقرب النساء ، و قيل :
إن بصرها ضاع بسبب استمرارها في البكاء على يوسف ، خرجت من قصرها و تاهت في طرقات المدينة ، فلما صار يوسف كبيرا للوزراء ،
و مضى موكبه يوما هتفت به امرأة ضريرة تتكفف الناس : سبحان من جعل الملوك عبيدا بالمعصية ، و جعل العبيد ملوكا بالطاعة .
سأل يوسف : صوت من هذا ؟
قيل له : امرأة العزيز ، انحدر حالها بعد عز . و استدعاها يوسف .
و سألها : هل تجدين في نفسك من حبك لي شيئا ؟
قالت : نظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا يا يوسف . . ناولني نهاية سوطك .
فناولها ، فوضعته على صدرها ، فوجد السوط يهتز في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها .
و قيلت أساطير أخرى ، يبدو فيها أثر المخيلة الشعبية و هي تنسج قمة الدراما بانهيار العاشقة إلى الحضيض . . غير أن السياق القرآني تجاوز تماما نهاية المرأة .
أغفلها من سياق القصة ، بعد أن شهدت ليوسف . . و هذا يخدم الغرض الديني في القصة .
فالقصة أساسا قصة يوسف و ليست قصة المرأة . . و هذا أيضا يخدم الغرض الفني . . لقد ظهرت المرأة ثم اختفت في الوقت المناسب .
اختفت في قمة مأساتها ، و شاب اختفاءها غموض فني معجز . . و لربما بقيت في الذاكرة باختفائها هذا زمنا أطول مما كانت تقضيه لو عرفنا بقية قصتها .
سنتناول كل الأساطير الذى تحدثت عن نهاية زوليخة مع يوسف الصديق ؟ .
انتظروا الفصل القادم .
يتبع .
************