رواية النار و الماء .
الفصل الثامن عشر .
لقد وصلنا فى الفصل الماضى لما أتم موسى 10 سنين أجيراً عند والد زوجته شعيب ، أراد أن يعود مع أهله إلى مصر لزيارة أهلها متخفياً ، فأعطاه شعيب غنماً يعيش به ، و ارتحل موسى مع أهله من عند صهره شعيب و انطلق متجهاً نحو الديار المصرية .
خرج موسي و سافر بأهله ، و لما وصلوا جبال الطور من أرض سيناء عند وادى طوى المقدس ، و حل عليهم الليل ، تاهو في طريقهم ، فقد كانت الليلة شديدة الظلام و البرد ، فأطرق موسى بصره ، فرأي في الجانب الغربي من جبل الطور ضوءاً فقال لأهله :
انتظروا هنا ، إني آنست ناراً هناك ، سأذهب إليها لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تدفئون بها .
و لما قصد موسي إلى تلك النار التي رآها ، و وصل إليها وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج ، و كل ما لتلك النار في اضطرام و كل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد ، فوقف متعجباً ، و كانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه ، و ناداه الله :
يا موسى إني أنا الله رب العالمين ، و أنت في الوادي المقدس طوى ، و قد بورك من في النار و من حولها ، فاخلع نعليك ، يا موسى إني اصطفيتك و اخترتك فاستمع لما يوحى إليك ، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ، و أقم الصلاة لذكري ، و إن يوم الحساب قادم لا محالة لكني أخفي موعده لأختبر كل نفس بما تسعى ، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها و اتبع هواه فتردى .
كان المشهد مهيباً ، و الروع يملأ قلب موسى ، فسأله الله :
و ما تلك بيمينك يا موسى ؟
قال موسي :
هي عصاي أتوكأ عليها و أهش بها على غنمي ولى فيها مآرب أخرى .
قال : ألقها يا موسى .
فلما ألقاها موسي على الأرض انقلبت حية ضخمة تتحرك حركة سريعة كأنها مثل الجان ، فخاف موسى و ولى مدبراً يجرى منها بعيداً ولا يلتفت .
فناداه الله : يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ، خذها و أمسكها بيدك سنعيدها سيرتها الأولى كما كانت عصا .
فاقترب موسي منها و هو يهابها ، حتى أمسكها فإذا هي تتحول إلى عصا مرة أخرى ، ثم أمره تعالى أن يدخل يده في جيبه ثم ينزعها ، فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضاً من غير سوء ، أي من غير برصٍ ولا بهق ، فكانت معجزتان و برهانان .
و بعدما شاهد موسي البرهانين ، أمره الله تعالى أن ينطلق برسالته مع هذه البراهين إلى فرعون فإنه قد طغى في البلاد و أكثر فيها الفساد ، و أن يخاطبه خطاباً ليناً لعله يتذكر أو يخشى .
فقال موسي : رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلوني ، و أخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معى ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبوني ( و كان بلسان موسى لدغة ) .
فقال الله : قد أوتيت سؤلك يا موسى ، سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما ، و أنتم الغالبون بآياتنا و بمن اتبعكما من المؤمنين .
و وهب الله لموسى أخاه هارون و جعله نبياً ، ليكون وزيرا مع موسي ، يسبحون الله سوياً و يذكرونه كثيرا ، و انطلقا سوياً إلى فرعون ليبلغاه رسالة الله ، فلما التقيا بفرعون .
قالا : إنا رسولا رب العالمين ، أرسلنا لندعوك إلى عبادته سبحانه وحده لا شريك له ، و أن تفك أسرى بني إسرائيل و ترفع عنهم القهر و الظلم ، و تتركهم يعبدون ربهم حيث شاءوا .
قال فرعون : ألست أنت الذي ربيناه في منزلنا منذ ميلاده و أنعمنا عليه كل هذه السنين حتى كبر ثم تمرد علينا ؟ ألست أنت من ارتكبت جريمتك و قتلت القبطي و كفرت بنعمتنا ؟
قال موسي : نعم فعلت ذلك و أنا من الضالين ، قبل أن ينزل الوحي إلى ، ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي النبوة و جعلني من المرسلين ، أما تلك النعمة التي تمن بها علىّ فأنا رجل واحد من بني إسرائيل لكنك استعبدت بقية القوم و استخدمتهم في أعمالك و خدمتك و أشغالك ، و الله أمرنا بالعدل و رفع الظلم ، و أوحى إلينا أن العذاب على من كذب و تولى .
قال فرعون : و من رب العالمين الذي تزعمان أنه أرسلكما و ابتعثكما ؟
قال : رب السماوات و الأرض و ما بينهما إن كنتم موقنين ، هو الذي خلق كل شيء ثم هداه .
قال : فما بال القرون الأولى ؟ لماذا عبدت غيره إذا كان هو الخالق .
قال : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ، فضلالهم ليس حجة ، فالله يحصي عليهم أعمالهم و يجزيهم بها يوم القيامة ولا يظلم مثقال ذرة ، فهي مكتوبة و محصاة عليهم ، فهو سبحانه الذي جعل لكم الأرض ممهدة للعيش فيها ، و سلك فيها سبلاً و أنزل من السماء ماء فأخرج به أزوجاً من شتى النباتات ، لتأكلوا و لترعوا أنعامكم ، إن في ذلك لآيات لأصحاب العقول ، فالله خلقنا من الأرض و فيها نعود إليها ثم يخرجنا تارة أخرى للحساب و الجزاء .
نظر فرعون لمن حوله ساخراً مما يسمع .
و قال : ألا تستمعون ؟ قال ربكم و رب آبائكم الأولين ، إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون .
قال : لست مجنوناً ، إنه رب المشرق و المغرب إن كنتم تعقلون .
غضب فرعون مما يسمع و قال :
أنا ربكم الأعلى ، و لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين .
قال موسي :
أولو جئتك بشئ مبين .
قال : فائت به إن كنت من الصادقين .
فرمى موسى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، فزع منه فرعون و خاف خوفاً شديداً أصابه بالإسهال ، ثم أدخل موسى يده في جيبه فخرجت بيضاء منيرة تتلألأ كالقمر و تبهر الأبصار ، لكن فرعون استكبر و رفض دعوة موسى ، و اتهمه بالسحر و قال :
إنك لساحر عليم بالسحر ، فهل جئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ؟ فإن كنت كذلك لآتينك بسحر أعظم من سحرك و إنا لغالبون ، و اجعل بيننا موعداً و مكاناً محدداً نجتمع فيه ولا نخلفه ولا تخلفه .
قال موسى :
موعدكم يوم الزينة في وقت الضحى ، و عليك جمع حشود الناس لترى بعينها ما يقع .
و كان هذا من أكبر مقاصد موسى أن يظهر آيات الله و حججه و براهينه أمام حشود الناس ، فاختار يوم الزينة لأنه يوم عيد من أعيادهم و مجتمع لهم .
انطلق فرعون ليجمع السحرة من كافة أنحاء مصر ، و كانت بلاد مصر في ذلك الزمان مليئة بالسحرة المحترفين ، فاجتمع منهم خلق كثير و جم غفير ، فقد كانوا بعشرات الآلاف ، و كان تحدياً عظيماً أمام موسي و فرعون ، و احتشد الناس في عيد يوم الزينة في الصباح كما طلب من فرعون .
حضر فرعون و أمراؤه و أهل دولته و أهل بلده عن بكرة أبيهم ، و قالوا :
لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ، و التقى فرعون بالسحرة ، و قالوا له :
أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين .
فقال فرعون :
نعم و إنكم لمن المقربين ، لكن اعلموا أن هذان لساحران عظيمان ، فأجمعوا سحركم جيداً .
تقدم موسي عليه السلام إلى السحرة واعظاً و داعياً ، فأخبرهم أنه ليس بساحر و إنما رسول من عند الله ألا نعبد إلا إياه ، و أن الله أعطاه برهان ليثبت نبوته و رسالته و ليس سحراً يخدع به عيون الناس كما يفعل السحرة ، ثم حذرهم موسى ألا يفتروا على الله الكذب بهذا السحر و الخداع و إلا سينزل عليهم العذاب ، و قد خاب من افترى .
أثارت كلمات موسي الجدل بين السحرة لعلمهم بحقيقة عملهم ، فخاف بعضهم ، و تردد آخرون ، بينما تمسك آخرون بمهمتهم التي كلفهم بها فرعون ، فوقع الخلاف فيما بينهم ، لكن فريقاً منهم راح يشجع كل السحرة أن يثبتوا فقالوا :
لا تنخدعوا بكلام هذان الساحران ، إنهما يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما و يغلبا الملك و يذهبا بطريقتكم الأولى ، فأجمعوا كيدكم و كونوا على قلب رجل واحد ولا تختلفوا ، و قد أفلح اليوم من استعلى .
لما اصطف السحرة و وقف موسى و هارون عليهما السّلام تجاههم ، قالوا له :
إما أن تلقي قبلنا ، و إما أن نلقي قبلك ؟ قال موسى :
ابدأوا أنتم و ألقوا ما معكم .
و كانوا قد عمدوا إلى حبال و عصيّ فأودعوها الزئبق و غيره من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال و العصي اضطراباً يخيل للرائي أنها تسعى و تتحرك ، فلما استعدوا قالوا :
بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون .
و ألقوا ما في أيديهم من الحبال و العصي ، فسحروا أعين الناس و استرهبوهم ، و جاءوا بسحر عظيم .
لما رأى موسي هذا المشهد العظيم أوجس في نفسه خيفة أن يفتتن الناس بما رأوا ، فأوحى الله إليه أن يا موسى لا تخف إنك أنت الأعلى و ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ، إنما صنعوا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى ، فقال موسى للقوم :
ما جئتم به السحر إن الله سيبطله ، إن الله لا يصلح عمل المفسدين ، و يحق الحق بكلماته و لو كره المجرمون .
حرص موسي أن يؤكد للناس أن ما سيقوم به ليس سحراً و إنما معجزة من الله أجراها على يديه لإبطال السحر و الخداع ، فلما ألقى موسى عصاه ، صارت حية عظيمة ذات قوائم و عنق عظيم و شكل هائل مزعج ، فهرب الناس منها و تأخروا عن مكانها ، و أقبلت الحية على ما ألقوه من الحبال و العصي ، فالتقمتها واحداً واحداً في أسرع ما يكون من الحركة ، و الناس ينظرون إليها و يتعجّبون منها .
و قع الحق و بطلت أعمال السحرة ، فغلبوا هنالك و انقلبوا صاغرين ، و هالهم ما رأوا و ما لم يكن في خلدهم ، و أدركوا أن موسى محق فيما قال لهم ، فكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة ، و هداهم للإيمان ، و خروا لله ساجدين ، و اعترفوا قائلين :
آمنا برب العالمين رب موسى و هارون .
اشتاط فرعون غضباً مما رأى ، و من خزلان السحرة له ، فقال :
آمنتم له قبل أن آذن لكم ، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ، و إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها .
و أقسم أن يعذب المؤمنين أشد العذاب ، و قال :
لأقطعن أيديكم و أرجلكم ولأصلبنكم في جذوع النخل و لتعلمن أينا أشد عذاباً و أبقى .
اتهم فرعون موسي أنه كبير السحرة الذي علمهم السحر ، رغم أنه يعلم و كل الناس تعلم أن فرعون هو الذي جمع السحرة من طول البلاد و عرضها و أنهم لم يلتقوا بموسى إلا يوم الزينة ، و أثار مشهد موسى مع السحرة جدلاً واسعاً في أنحاء البلاد حيث شاهدت الجماهير العريضة بنفسها كيف غلب موسي فرعون مصر و هزمه أمام أعين الناس .
كان أول من آمن به بعد واقعة العصا هم السحرة ، و قد هداهم الله و ثبت إيمانهم ، لكن فرعون استكبر و لم يؤمن بآيات ربه ، و حشد جنوده للنيل منهم بعدما خزلوه و فضحوه ، فنصب جزوع النخل و ربط المؤمنين عليها و ضربهم و قتلهم ، و بلغ إجرام فرعون حداً من الطغيان أن عذب الناس بقطع أطرافهم فيأتي بالرجل و يقطع يده اليمنى و قدمه اليسرى .
رفض السحرة الرجوع عن إيمانهم ، و واجهوا عذاب فرعون بكل تحدي وثقة ، و قالوا :
لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات و الذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاض ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا و ما أكرهتنا عليه من السحر ، و الله خير و أبقى .
لقد بلغ هؤلاء من الإيمان ما ثبت قلوبهم و صبرهم على البلاء ، و قالوا لفرعون :
ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا بما جاء به رسول الله ، و إن عذابك هذا قليل بالنسبة لعذاب الله ، فإن من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ، أما من يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فألئك لهم الدرجات العلا ، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك جزاء من تزكي .
و لما زاد فرعون التنكيل و التعذيب بهؤلاء المؤمنين قالوا :
ربنا أفرغ علينا صبراً و توفنا مسلمين ، و استشهد كثيرون في مذابح فرعون .
فكان ما سنذكره بعد إن شاء الله ، و به الثقة .
انتظروا الفصل القادم .
يتبع .
*************