رواية النار و الماء .
الفصل السادس .
ما هى قصة سيدنا يوسف و امرات العزيز ؟
وصلنا الفصل الماضى عندما قامت امرات العزيز روادته عن نفسه و عندما رفض يوسف ذلك ، و هرب منها و رأت امرات العزيز زوجها قد وصل و رأهم فقام باتهام يوسف أنه هو ما بادر بالاقتراب منها ، و قام العزيز بأخذ ب رأى أحد أهل زوجته و الذى قال أن يقوم بفحص قميص يوسف ، فإذا كان القميص ممزق من الأمام فوقتها يكون يوسف هو الكاذب و زوليخه ( امرات العزيز ) هى الصادقة ، أما أذا كان قميص يوسف ممزق من الظهر اذا وقتها تكون زوليخه هى الكاذبه و يوسف هو الصادق .
و عندما رأوا القميص وجدوه ممزق من الظهر فعلموا ان زوليخه هى الكاذبه و يوسف هو الصادق ، و كان رد فعل العزيز لخيانة زوجته أنه طلب من زوليخه ان تستغفر لهذا الذنب الذى ارتكبته و أن لا يهتم يوسف لهذا الأمر ، و أمر الجميع ان يصمتوا ولا يتحدثوا فى هذا الأمر مرة اخرى حتى لا يأثر هذا الأمر على مظهره وسط المجتمع .
و لكن كيف تحصل على الكتمان و القصر مليئ بالخدم و الوصيفات .
بدأ الموضوع ينتشر ، خرج من القصر إلى قصور الطبقة الحاكمة أو الراقية يومها . . و وجدت فيه نساء هذه الطبقة مادة شهية للحديث .
إن خلو حياة هذه الطبقات من المعنى ، و انصرافها إلى اللهو ، يخلعان أهمية قصوى على الفضائح التي ترتبط بشخصيات شهيرة . . و زاد حديث المدينة :
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
و انتقل الخبر من فم إلى فم . . و من بيت إلى بيت ، حتى وصل لامرأة العزيز .
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( 31 ) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ } .
قررت امرأة العزيز أن تعد مأدبة كبيرة في القصر ، و ندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية ، فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور .
و يبدوا أنهن كن يأكلن و هن متكئات على الوسائد و الحشايا ، فأعدت لهن هذا المتكأ .
و اختارت ألوان الطعام و الشراب و أمرت أن توضع السكاكين الحادة إلى جوار الطعام المقدم .
و وجهت الدعوة لكل من تحدثت عنها ، و بينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة ، فاجأتهن بيوسف :
{ وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } .
بهتن لطلعته ، و دهشن .
( وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) .
و جرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة . ( وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ ) .
و هي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع الله .
( مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) .
يتضح من هذه التعبيرات أن شيئا من ديانات التوحيد تسربت لأهل ذلك الزمان .
و رأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها، و أنهن لقين من طلعة يوسف الدهش و الإعجاب و الذهول ، فقالت قولة المرأة المنتصرة ، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها و طبقتها ، و التي تفتخر عليهن بأن هذا متناول يدها ؛
و إن كان قد استعصم في المرة الأولى فهي ستحاول المرة تلو الأخرى إلى أن يلين :
انظرن ماذا لقيتن منه من البهر و الدهش و الإعجاب ! لقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه لكنه استعصم ، و إن لم لطعني سآمر بسجنه لأذلّه .
إنها لم ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية أما نساء طبقتها . . فقالتها بكل إصرار و تبجح ، قالتها مبيّنة أن الإغراء الجديد تحت التهديد .
و اندفع النسوة كلهم إليه يراودنه عن نفسه . . كل منهن أرادته لنفسها . . و يدلنا على ذلك أمران هما :
الدليل الأول هو قول يوسف عليه السلام .
( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) .
فلم يقل ( ما تدعوني إليه ) . . و الأمر الآخر هو سؤال الملك لنهم فيما بعد .
أمام هذه الدعوات - سواء كانت بالقول أم بالحركات و اللفتات - استنجد يوسف بربه ليصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن ، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم ، فيقع فيما يخشاه على نفسه .
دعى يوسف الله دعاء الإنسان العارف ببشريته ، الذي لا يغتر بعصمته ؛ فيريد مزيدا من عناية الله و حياطته ، و يعاونه على ما يعترضه من فتة و كيد و إغراء .
{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } .
و استجاب له الله . . و صرف عنه كيد النسوة .
{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
و هذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن ، بعد هذه التجربة ؛
أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى يحس في نفسه أثرا منه ، أو بهما جميعا ، و هكذا اجتاز يوسف المحنة الثانية بلطف الله و رعايته ، فهو الذي سمع الكيد و يسمع الدعاء ، و يعلم ما وراء الكيد و ما وراء الدعاء .
ما انتهت المحنة الثانية إلا لتبدأ الثالثة . . لكن هذه الثالثة هي آخر محن الشدة ل يوسف عليه السلام .
تبدأ المحنة الثالثه فى حياة يوسف عليه السلام بدخوله السجن .
ربما كان دخوله للسجن بسبب انتشار قصته مع امرأة العزيز و نساء طبقتها ، فلم يجد أصحاب هذه البيوت طريقة لإسكات هذه الألسنة سوى سجن هذا الفتى الذي دلت كل الآيات على برائته ، لتنسى القصة .
قال تعالى في سورة ( يوسف ) :
{ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } .
و هكذا ترسم الآية الموجزة جو هذا العصر بأكمله . . جو الفساد الداخلي في القصور ، جو الأوساط الأرستقراطية . . و جو الحكم المطلق .
إن حلول المشكلات في الحكم المطلق هي السجن . . و ليس هذا بغريب على من يعبد آلهة متعددة .
كانوا على عبادة غير الله . . و لقد رأينا من قبل كيف تضيع حريات الناس حين ينصرفون عن عبادة الله إلى عبادة غيره .
و ها نحن أولاء نرى في قصة يوسف شاهدا حيا يصيب حتى الأنبياء ، صدر قرارا باعتقاله و أدخل السجن .
بلا قضية ولا محاكمة ، ببساطة و يسر ، لا يصعب فى مجتمع تحكمة آلهة متعددة ان يسجن برئ بل لعل الصعوبة تكمن فى محاولة شئ غير ذلك .
دخل يوسف السجن ثابت القلب هادئ الأعصاب أقرب إلى الفرح لأنه نجا من إلحاح زوجة العزيز و رفيقاتها ، و ثرثرة و تطفلات الخدم .
كان السجن بالنسبة إليه مكانا هادئا يخلو فيه و يفكر في ربه .
و يبين لنا القرآن الكريم المشهد الأول مما حدث مع يوسف عليه السلام داخل السجن :
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِين ( 36 ) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون ( 37 ) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ( 38 ) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 39 ) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( 40 ) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ( 41 ) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ .
يختصر السياق مرة اخرى ما كان من أمر يوسف فى السجن ، لكن ما يتبادر للذهب عند قراءة هذه الآيات هو انتهاز يوسف - عليه السلام - فرصة وجوده في السجن ، ليقوم بالدعوة إلى الله .
مما جعل السجناء يتوسمون فيه الطيبة و الصلاح و إحسان العبادة و الذكر و السلوك.
انتهز يوسف - عليه السلام - هذه الفرصة ليحدث الناس عن رحمة الخالق و عظمته و حبه لمخلوقاته ، كان يسأل الناس : أيهما أفضل . . أن ينهزم العقل و يعبد أربابا متفرقين .
أم ينتصر العقل و يعبد رب الكون العظيم ؟ و كان يقيم عليهم الحجة بتساؤلاته الهادئة و حواره الذكي و صفاء ذهنه ، و نقاء دعوته .
لنعد للسجينين الذين سألاه تفسير رؤياهما . . إن أول ما قام به يوسف - عليه السلام - هو طمأنتهما أنه سيؤول لهم الرؤى ، لأن ربه علمه علما خاصا ، جزاء على تجرده هو و آباؤه من قبله لعبادته وحده ، و تخلصه من عبادة الشركاء . . و بذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما ، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه . . ثم بدأ بدعوتهما إلى التوحيد ، و تبيان ما هم عليه من الظلال .
قام بكل هذا برفق و لطف ليدخل إلى النفوس بلا مقاومة ، بعد ذلك فسر لهما الرؤى .
بيّن لهما أن أحدها سيصلب ، و الآخر سينجو ، لكنه لم يحدد من هو صاحب البشرى و من هو صاحب المصير السيئ تلطفا و تحرجا من المواجهة بالشر و السوء .
أوصى يوسف من سينجو منهما أن يذكر حاله عن الملك ، لكن الرجل لم ينفذ الوصية ، فربما ألهته حياة القصر المزدحمة يوسف و أمره . . فلبث في السجن بضع سنين ، أراد الله بهذا أن يعلم يوسف - عليه السلام - درسا .
فقد ورد في إحدى الرويات أنه جاءه جبريل قال : يا يوسف من نجّاك من إخوتك ؟
قال : الله .
قال : من أنقذك من الجب ؟
قال : الله .
قال : من حررك بعد أن صرت عبدا ؟
قال : الله .
قال : من عصمك من النساء ؟
قال : الله .
قال : فعلام تطلب النجاة من غيره ؟
و قد يكون هذا الأمر زيادة في كرم الله عليه و اصطفاءه له ، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد .
في هذا المشهد تبدأ نقطة التحول . . التحول من محن الشدة إلى محن الرخاء . . من محنة العبودية و الرق لمحنة السلطة و الملك .
في قصر الحكم ، و في مجلس الملك :
يحكي الملك لحاشيته رؤياه طالبا منهم تفسيرا لها :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } .
لكن المستشارين و الكهنة لم يقوموا بالتفسير . ربما لأنهم لم يعرفوا تفسيرها ، أو أنهم أحسوا أنها رؤيا سوء فخشوا أن يفسروها للملك ، و أرادوا أن يأتي التفسير من خارج الحاشية - التي تعودت على قول كل ما يسر الملك فقط .
و عللوا عدم التفسير بأن قالوا للملك أنها أجزاء من أحلام مختلطة ببعضها البعض ، ليست رؤيا كاملة يمكن تأويلها .
{ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } .
و لم يفسروا ل الملك ما رأه فى المنام .
يا ترى ايه هيكون علاقة يوسف بالحلم الخاص بالملك ؟
انتظروا الفصل الجاى .
يتبع .
****************