رواية النار و الماء .
الفصل الحادى عشر .
لقد وصلنا فى الفصل الماضى عندما استخرجوا الجنود و الموظفين كأس الملك من متاع أخو يوسف بنيامين ، و كان من حكم آل يعقوب من يسرق يصبح عبدا عند الذى سرق مقدار من الزمن تحدده قيمة الشئ المسروق ، فأصبحوا اخوت يوسف غير الأشقاء فى حيرة من أمرهم .
عندما لاحظ الإخوة أنفسهم محاصرين بين أمرين ، فمن جهة و طبقًا للسنّة و الدستور المتعيّن عندهما لا بد و أن يبقى أخوهم الصغير - بنيامين عند عزيز مصر و يقوم بخدمته كسائر عبيده ، و من جهة أخرى فإنهم قد أعطوا لأبيهم المواثيق و الأيمان المغلظّة على أن يحافظوا على أخيهم بنيامين و يعودوا به سالمًا إليه ، حينما وقعوا في هذه الحالة توجّهوا إلى يوسف الذي كان مجهول الهوية عندهم ، مخاطبين إياه .
﴿ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ﴾ .
لكي نرجعه إلى أبيه و نكون قد وفينا بالوعد الذي قطعناه لهن فإنه شيخ كبير ولا طاقة له بفراق ولده العزيز ، فنرجو منك أن تترّحم علينا و على أبيه فـ
﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ .
و أما يوسف فإنه قد واجه هذا الطلب بالإنكار الشديد و
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ﴾ .
فإن العدل و الإنصاف يقتضي أن يكون المعاقب هو السارق ، و ليس بريئًا رضي بأن يتحمّل أوزار عمل غيره ، و لو فعلنا لأمسينا من الظالمين .
﴿ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ ﴾ .
و الطريف أن يوسف لم ينسب لأخيه السرقة و إنما عبّر عنه بـ
﴿ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ﴾ .
و هذا برهان على السلوك الحسن و السيرة المستقيمة التي كان ينتهجها يوسف في حياته .
حاول الأخوة أن يستنقذوا أخاهم بنيامين بشتّى الطرق إلا أنهم فشلوا في ذلك ، و رأوا أن جميع سبل النجاة قد سدّت في وجوههم ، فبعد أن فشلوا في تبرئة أخيهم و بعد أن رفض العزيز استعباد أحدهم بدل بنيامين ، استولى عليهم اليأس وصمّموا على الرجوع و العودة إلى كنعان لكي يخبروا أباهم ، يقول القرآن واصفًا إياهم .
﴿ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا ﴾ .
أي أنهم بعد أن يئسوا من عزيز مصر أو من إنقاذ أخيهم ، ابتعدوا عن الآخرين و اجتمعوا في جانب و بدأوا بالتشاور و النجوى فيما بينهم .
و في ذلك الاجتماع الخاص خاطبهم الأخ الأكبر قائلاً :
﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ ﴾ .
بأن تردّوا إليه بنيامين سالمًا ، فالآن بماذا تجيبونه ؟ و قد سوّدنا صفحتنا في المرة السابقة بما عاملنا به أخانا يوسف .
﴿ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ﴾
فالآن والحالة هكذا ? فإنني لا أغادر أرض مصر و سوف أعتصم فيها .
﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾.
ثم أمرهم الأخ الأكبر أن يرجعوا إلى أبيهم و يخبروه بما جرى عليهم .
﴿ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ﴾ .
و هذه شهادة نشهدها بمقدار ما علمنا من الواقعة حيث سمعنا بفقد صواع الملك ، ثم عثر عليه عند أخينا و ظهر للجميع إنه قد سرقها .
﴿ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ﴾ .
و لكن نحن لا نعلم إلا ما شهدناه بأعيننا و هذا غاية معرفتنا .
﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾ .
ثم أرادوا أن يزيلوا الشك و الريبة عن قلب أبيهم فقالوا يمكنك أن تحقّق و تسأل من المدينة التي كنّا فيها .
﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ﴾ .
و من القافلة التي سافرنا معها إلى مصر و رجعنا معها ، حيث أن فيها أُناسًا يعرفونك و تعرفهم ، و بمقدورك أن تسألهم عن حقيقة الحال و واقعها .
﴿ وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ .
و في كل الأحوال كن على ثقة بأننا صادقون و لم نقص عليك سوى الحقيقة و الواقع .
﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ .
يستفاد من مجموع هذه الكلمات و الحوار الذي دار بين الأولاد و الأب أن قضية سرقة بنيامين كانت قد شاعت في مصر ، و أن جميع الناس علموا بأن أحد أفراد العير و القافلة القادمة من كنعان حاول سرقة صواع الملك ، لكن موظفي الملك تمكنّوا بيقظتهم من العثور عليها و القبض على سارقها ، و لعل قول الأخوة لأبيهم .
﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ... ﴾ .
أي اسأل أرض مصر ، كناية عن أن القضية شاعت بحيث علم بها حتى أراضي مصر و حيطانها .
و أخيرًا غادروا مصر متجهين إلى كنعان في حين تخلّف أخوهم الكبير و الصغير ، و وصلوا إلى بيتهم منهوكي القوى و ذهبوا لمقابلة أبيهم ، و حينما رأى الأب الحزن و الألم مستوليًا على وجوههم ( خلافًا للسفرة السابقة و التي كانوا فيها في غاية الفرح ) علم أنهم يحملون إليه أخبارًا محزنة و خاصّة حينما افتقد بينهم بنيامين و أخاه الأكبر ، و حينما أخبروه عن الواقعة بالتفصيل ، استولى عليه الغضب و قال مخاطبًا إياهم بنفس العبارة التي خاطبهم بها حينما أرادوا أن يشرحوا له خديعتهم مع يوسف .
﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾ .
لكن بعد هذا العتاب المليء بالحزن و الأسى رجع يعقوب إلى قرارة نفسه و قال
﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ .
أي إنني سوف أمسك بزمام نفسي ، ولا أسمح لها بأن تطغى عليّ بل أصبر صبرًا جميلاً على أمل بأن الله سبحانه و تعالى سوف يعيد لي أولادي ( يوسف و بنيامين و أخوهم الأكبر ) .
﴿ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ﴾ .
فإنه هو العالم بواقع الأمور و الخبير بحوادث العالم ما مضى منها و ما سوف يأتي ، ولا يفعل إلا عن حكمة و تدبير
﴿ إِنَّهُ هُوَ العليمُ الْحَكِيمُ ﴾ .
ثم بعد هذه المحاورات بين يعقوب و أولاده ، استولى عليه الحزن و الألم ، و حينما رأى مكان بنيامين خاليًا عادت ذكريات ولده العزيز يوسف إلى ذهنه ، و تذّكر تلك الأيام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ذا الأخلاق الفاضلة و الصفات الحسنة و الذكاء العالي فيشّم رائحته الطيّبة و يستعيد نشاطه ، أما اليوم فلم يبق منه أثر ولا عن حياته خبر ، كما أن خليفته ( بنيامين ) أيضًا قد ابتلي مثل يوسف بحادث مؤلم و ذهب إلى مصير مجهول لا تعرف عاقبته .
حينما تذكّر يعقوب هذه الأمور ابتعد عن أولاده و استعبر ل يوسف
﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾ .
أمّا الأخوة فإنهم حينما سمعوا باسم يوسف ، ظهر على جبينهم عرق الندامة و ازداد خجلهم و استولى عليهم الحزن لمصير أخويهم بنيامين و يوسف ، و اشتدّ حزن يعقوب و بكاؤه على المصائب المتكررّة و فقد أعزّ أولاده .
﴿ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ﴾ .
لكن يعقوب كان ? في جميع الأحوال مسيطرًا على حزنه و يخفّف من آلامه و يكظم غيظه و أن لا يتفوّه بما لا يرضى به الله سبحانه و تعالى .
﴿ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ .
يفهم من القرآن الكريم أن يعقوب لم يكن فاقدًا لبصره ، لكن المصائب الأخيرة و شدّة حزنه و دوام بكائه أفقد بصره ، و كما أشرنا سابقًَا فإن هذا الحزن و الألم و العمى كان خارجًا عن قدرته و اختياره ، فإذًا لا يتنافى مع الصبر الجميل .
أما الأخوة فكانوا متألمين من جميع ما جرى لهم ، فمن جهة كان عذاب الوجدان لا يتركهم ممّا أحدثوه ل يوسف ، - و في قضية بنيامين ? شاهدوا أنفسهم في وضع صعب و امتحان جديد ، و من جهة ثالثة كان يصعب عليهم أن يشاهدوا أباهم يتجرّع غصص المرارة و الألم و يواصل بكاؤه الليل بالنهار ، و توجّهوا إلى أبيهم و خاطبوه معاتبين .
﴿ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ﴾ .
أي أنك تردّد ذكر يوسف و تتأسف عليه حتى تتمرّض و تشرف على الهلاك و تموت .
لكن شيخ كنعان هذا النبي العظيم و المتيّقظ الضمير ردّ عليهم بقوله :
﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ ﴾ .
لا إليكم أنتم الذين تخونون الوعد و تنكثون العهد لأنني .
﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ .
فهو اللطيف الكريم الذي لا أطلب سواه .
يا ترى ايه هيحصل تانى مع اخوة يوسف ؟
و يا ترى يعقوب عليه السلام هيعمل ايه تانى ؟
انتظروا الفصل الجاى .
يتبع .
*************