رواية النار و الماء .
الفصل الثانى عشر .
وصلنا فى الفصل الماضى عندما اشتد حزن سيدنا يعقوب عليه السلام على أبناءه و اتجه إلى الله يشكوا له همه و حزنه و توالى مبتعدا عن من حوله ، حتى اصيب بالعمئ من كثرت بكاءه و اشتياقه إلى أبناءه .
كان القحط و الغلاء و شحّة الطعام يشتدّ يومًا بعد آخر في مصر و ما حولها و منها كنعان ، و مرة أخرى أمر يعقوب أولاده بأن يتوجهوا صوب مصر للحصول على الطعام ، لكنه هذه المرة طلب منهم بالدرجة الأولى أن يبحثوا عن يوسف و أخيه بنيامين ، حيث قال لهم :
﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾ .
لكن بما أن أولاد يعقوب كانوا مطمئنين إلى هلاك يوسف و عدم بقاءه ، تعجّبوا من توصية أبيهم و تأكيده على ذلك ، لكن يعقوب نهاهم عن اليأس و القنوط و وصّاهم بالاعتماد على الله سبحانه و الاتكال عليه بقوله :
﴿ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ ﴾ .
فإنه القادر على حلّ الصعاب و . .
﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ .
و أخيرًا جمع الأخوة متاعهم و توجهوا صوب مصر ، و هذه هي المرة الثالثة التي يدخلون فيها أرض مصر ، هذه الأرض التي سبّبت لهم المشاكل و جرّت عليهم الويلات .
لكن في هذه السفرة ? خلافًا للسفرتين السابقتين ? كانوا يشعرون بشيء من الخجل يعذب ضمائرهم فإن سمعتهم عند أهل مصر أو العزيز ملوّثة للوصمة التي لصقت بهم في المرة السابقة ، و لعلّهم كانوا يرونهم بمثابة ( مجموعة من لصوص كنعان ) الذين جاءوا للسرقة .
و من جهة أخرى لم يحملوا معهم هذه المرة من المتاع ما يستحقّ أن يعاوضوه بالطعام و الحبوب ، إضافة إلى هذه الأمور فإن فقد أخيهم بنيامين و الآلام التي ألمّت بأبيهم كانت تزيد من قلقهم و بتعبير آخر فإن السكين قد وصلت إلى العظم ، كما يقول المثل إلا أن الذي كان يبعث في نفوسهم الأمل و يعطيهم القدرة على تحمّل الصعاب هو وصيّة أبيهم .
َ﴿َ لاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ ﴾ .
و أخيرًا استطاعوا أن يقابلوا يوسف ، فخاطبوه ? و هم في غاية الشدّة و الألم ? بقولهم :
﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ﴾ .
أي إن القحط و الغلاء و الشدّة قد ألمّت بنا و بعائلتنا و لم نحمل معنا من كنعان إلا متاعًا رخيصًا .
﴿ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ ﴾ .
لا قيمة لها و لكن ? في كل الأحوال ? نعتمد على ما نبذل لنا من كرمك و نأمل في معروفك .
﴿ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ﴾ .
بمنّك الكريم و صدقاتك الوافرة
﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ ﴾ .
ولا تطلب منا الأجر ، بل اطلبه من الله سبحانه و تعالى حيث .
﴿ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴾ .
و الطريف أن إخوة يوسف لم ينفذوا وصيّة أبيهم في البحث عن إخوتهم أوّلاً ، بل حاولوا الحصول على الطعام ، و لأجل ذلك قابلوا العزيز وطلبوا منه المؤن و الحبوب ، و لعلّ السبب في ذلك ضعف أملهم في العثور على يوسف ، أو لعلّهم أرادوا أن يظهروا أنفسهم أمام العزيز و المصريين و كأنّهم أُناس جاءوا لشراء الطعام و الحبوب فقط ، فمن ثم يطرحوا مشكلتهم أمام العزيز و يطلبوا منه المساعدة ، فعند ذاك يكون وقع الطلب أقوى و احتمال تنفيذه أكثر .
قال البعض : إن مقصود الأخوة من قولهم :
﴿َ تَصَدَّقْ عَلَيْنَآ ﴾ .
كان طلب الإفراج عن أخيهم لأنهم لم يطلبوا من العزيز الطعام و الحبوب مجّانًا دون عوض حتى يطلبوا منه التصدّق عليهم ، فإنهم يدفعون ثمنه .
يوسف يقبّل رسالة الأب بعيون مغرورقة بالدموع .
إن الإخوة كانوا يحملون معهم رسالة من أبيهم إلى عزيز مصر ، حيث مدح يعقوب في تلك الرسالة عزيز مصر و أكبر عدالته و صلاحه و شكره على ما بذله له و لعائلته من الطعام و الحبوب ، ثم عرّف نفسه و الأنبياء من أهل بيته و أخبره برزاياه و ما تحملّه من المصائب و المصاعب من فقد أعزّ أولاده و أحبّهم إلى نفسه يوسف و أخيه بنيامين ، و ما أصابهم من القحط و الغلاء ، و في ختام الرسالة طلب من العزيز أن يمّن عليه و يطلق سراح ولده بنيامين ، و ذكّره أن بنيامين سليل بيت النبوّة و الرسالة و أنه لا يتلوث بالسرقة و غيرها من الدناءات و المعاصي .
و حينما قدّم الأولاد رسالة أبيهم إلى العزيز شاهدوا أنه فضّ الرسالة باحترام و قبلها و وضعها على عينيه و بدأ يبكي بحيث أن الدموع بلّت ثيابه و هذا ما حيّر الإخوة ، و بدأوا يفكرّون بعلاقة العزيز مع أبيهم بحيث جعله يبكي شوقًا و شغفًا حينما فتحها ، و لعلّ فعل العزيز أثار عندهم أن يكون يوسف هو العزيز ، و لعلّ هذه الرسالة أثارت عواطف العزيز و شعوره بحيث لم يطق صبرًا و عجز أن يخفي نفسه بغطاء السلطة و أجبره على كشف نفسه لإخوته .
أءنك لأنت يوسف .
و في تلك اللحظة ، و بعد أن مضت أيام الامتحان الصعب و كان قد اشتدت محنة الفراق على يوسف و ظهرت عليه آثار الكآبة و الهمّ أراد أن يعرّف نفسه لإخوته فابتدرهم بقوله :
﴿ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ .
لاحظوا عظمة يوسف و علوّ نفسه حيث يسألهم أوّلاً عن ذنبهم لكن بهذه الكناية اللطيفة يقول :
﴿ مَّا فَعَلْتُم ﴾ .
و ثانيًا يبين لهم طريقة الاعتذار و أن ما ارتكبوه في حق إخوتهم إنما صدر عن جهلهم و،غرورهم ، و أنه قد مضى أيام الصبى و الطفولة و هم الآن في دور الكمال و العقل !
كما أنه يفهم من هذا الكلام أن يوسف لم يكن وحده الذي ابتلى بإخوته و معاملتهم السيّئة ، بل إن بنيامين أيضًا كان يقاسي منهم ألوان العذاب ، و لعلّه قد شرح لأخيه يوسف في الفترة التي قضاها في مصر ، جانبًا مما عاناه تحت أيديهم .
إن يوسف حينما استفسر عمّا فعلوه معه و مع أخيه ختم استفساره بابتسامة عريضة ليدفع عن أذهانهم احتمال أنه سوف ينتقم منهم فظهرت لإخوته أسنانه الجميلة و لاحظوا و تذكرّوا الشبه بينه و بين أسنان أخيهم يوسف .
أمّا هم ، فإنهم لاحظوا هذه الأمور مجتمعة ، و شاهدوا أن العزيز يتحدّث معهم و يستفسرهم عمّا فعلوه بيوسف ، تلك الأعمال لم يكن يعلم بها أحد غيرهم إلا يوسف .
و من جهة أخرى أدهشهم يوسف و،ما أصابه من الوجد و الهياج حينما استلم كتاب يعقوب ، و أحسّوا بعلاقة و ثيقة بينه و بين صاحب الرسالة .
و ثالثًا كلما أمعنوا النظر في وجه العزيز و دقّقوا في ملامحه ، لاحظوا الشبه الكبير بينه و بين أخيهم يوسف . . لكنّهم في نفس الوقت لم يدر بخلدهم و لم يتصوروا أنه يمكن أن يكون أخوهم يوسف قد ارتقى منصب الوزارة و صار عزيزًا لمصر ، أين يوسف و أين الوزارة و،العزّة،؟! لكنهم تجّرأوا و سألوه مستفسرين منه
﴿ قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ﴾ .
يا ترى ايه هيكون رد فعل سيدنا يعقوب عليه السلام عندما يعلم ان ابناءه قد وجدوا يوسف ؟
انتظروا الفصل القام .
يتبع .
**************