رواية النار و الماء .
الفصل الرابع عشر .
وصلنا الفصل الماضى عندما علموا اخوة يوسف ان يوسف هو العزيز بعد ان رأوا رد فعله عندما رأه رسالة والده الذى كانوا اخوته يحملوها . . و اجابهم يوسف عليه السلام انه هو اخاهم يوسف و انه عزيز مصر ، و لما عرف ما حدث ل ابيه بسبب شوقه له هو و اخيه حزن يوسف على حال ابيه و امرهم أن يأخذوا قميصه هذا و الذى اعطى القميص الذى كان عليه دم الذئب كما ادعوا من قبل ، يقوم بالقاء هذا القميص على وجه ابى ، و سوف يعود له بصره .
و أخيرًا شملتهم رعاية الله و لطفه .
أمّا أولاد يعقوب فإنهم بعد أن واجهوا يوسف و جرى لهم ما جرى حملوا معهم قميص يوسف فرحين و مستشرين و توجّهوا مع القوافل القادمة من مصر ، و فيما كان الإخوة يقضون أسعد لحظات حياتهم ، كان هناك بيت في بلاد الشام و أرض كنعان ألا و هو بيت يعقوب الطاعن في السن حيث كان يقضي هو و عائلته أحرج اللحظات و أشدّها حزنًا و بؤسًا .
لكن ? مقارنًا مع حركة القافلة ? حدث في بيت يعقوب حادث غريب بحيث أذهل الجميع و صار مثارًا للعجب و الحيرة ، حيث نشط و تحرّك من مكانه و تحدّث كالمطمئن و الواثق بكلامه قال : لو لم تتحدثوا عنّي بسوء و لم تنسبوا إليّ كلامي إلى السفاهة و الجهل و الكذب لقلت لكم :
﴿ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ .
فإني أحس بأن أيام المحنة و الآلام سوف تنصرم في القريب العاجل ، و أنه قد حان وقت النصر و اللقاء مع الحبيب ، و أرى أن آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء و المصيبة و لبسوا لباس الفرح و السرور ? لكن لا تصدقون كلامي .
﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ﴾ .
أمّا الذين كانوا مع يعقوب و هم عادةً أحفاده و أزواج أولاده و غيرهم من الأهل و العشيرة فقد استولى عليهم العجب و خاطبوه بوقاحة مستنكرين :
﴿ قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ ﴾ .
أليس هذا برهانًا واضحًا على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنك لا زلت تزعم أنه حي ، و أخيرًا تقول : إنك تشم رائحته من مصر ؟! أين مصر و أين الشام و كنعان ؟! و هذا دليل على بعدك عن عالم الواقع و انغماسك في الأوهام و الخيالات لكنك قد ضللت منذ مدّة طويلة ، ألم تقل لأولادك قبل فترة اذهبوا إلى مصر و تحسّسوا عن أحوال يوسف !
يظهر من هنا أن المقصود بـ ( الضلال ) ليس الانحراف في العقيدة ، بل الانحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف و القضايا المتعلّقة به ، لكن يستفاد من هذه التعابير أنهم كانوا يتعاملون مع هذا النبي الكريم و الشيخ المتيّقظ الضمير بخشونة و قساوة بالغين بحيث كانوا يقولون له مرّة :
﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ .
و هنا قالوا له :
﴿ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ ﴾ .
لكنهم كانوا غافلين عن الحقيقة التي كان يحلّى بها يعقوب و عن صفاء قلبه ، و يتصّورون أن قلب يعقوب كقلوبهم القاسية المظلمة و أنه لا يطلّع على حقائق الأمور ماضيها و مستقبلها .
و تصل قافلة إلى كنعان .
و تمضي الليالي و الأيام و يعقوب في حال الانتظار . . الانتظار القاسي الذي يستبطن السرور و الفرح و الهدوء و الاطمئنان ، إلا أن المحيطين به كانوا مشغولين عن هذه الأمور لاعتقادهم بأن قضية يوسف مختومة و إلى الأبد .
و بعد عدة أيام من الانتظار ? و التي لا يعلم إلا الله كيف قضاها يعقوب ? ارتفع صوت المنادي معلنًا عن وصول قافلة كنعان من مصر ، لكن في هذه المرّة ? و خلافًا للمرّات السابقة ? دخل أولاد يعقوب إلى المدينة فرحين مستبشرين ، و توجّهوا مسرعين إلى بيت أبيهم ، و قد سبقهم ( البشير ) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف و ألقى قميص يوسف على وجهه .
أمّا يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره و لم يكن قادرًا على رؤية القميص فبمجّرد أن أحس بالرائحة المنبعثة من القميص شعر في تلك اللحظة الذهبية بأن نورًا قد شعّ في جميع ذرّات وجوده ، و أن السماء و الأرض مسروران و نسيم الرحمة يدغدغ فؤاده و يزيل عنه الحزن و الألم ، شاهد الجدران و كأنها تضحك معه ، و أحسّ يعقوب بتغيّر حالته ، و فجأة رأى النور في عينيه و أحسّ بأنهما قد فتحتا و مرّة أخرى رأى جمال العالم ، و القرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله :
﴿ فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ﴾ .
هذه الحالة التي حصلت ليعقوب أسالت دموع الفرح من عيون الإخوة و الأهل ، و عند ذاك خاطبهم بقوله :
﴿ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ .
هذه المعجزة الغريبة ، جعلت الأولاد يعودون إلى أنفسهم و يتساءلون عنها و يكرون في ماضيهم الأسود المليء بالأخطاء و الذنوب ، و ما اعتورهم من الحسد و الغيرة من الصفات الرذيلة و البعيدة عن الإنسانية ، لكن ما أجمل التوبة و العودة إلى طريق الصواب حينما ينكشف للإنسان خطأ المسيرة التي سار فيها . . و ما أحلى تلك اللحظات التي يحاول المذنب أن يطلب العفو ممن جنى عليه ، ليطّهر به نفسه و يبعدها عن جادّة الخطأ و الانحراف ، و هذا ما قام به الإخوة حيث وقعوا نادمين على يد أبيهم يقبلونها و يطلبون منه العفو و الاستغفار و هم يقولوا .﴿ قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ .
أمّا يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات ، فقد أجابهم دون أن يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقّه وحقّ أخيهم . . أجابهم بقوله :
﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ ﴾ .
و أملي معقود بأن يغفر الله سبحانه و تعالى ذنوبكم .
﴿ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ .
ما أحلى أجمل لحظات الوصال .
مع وصول القافلة التي تحمل أعظم بشارة من مصر إلى كنعان ، و عودة البصر إلى يعقوب ، ارتفعت أهايج في كنعان ، فالبيت الذي لم يخلع أهله عنهم ثياب الحزن و الأسى لسنين عديدة ، أصبح غارقًا في السرور و الحبور ، فلم يكتموا رضاهم عن هذه النعم الإلهية أبدًا .
و الآن ينبغي على أهل هذا البيت ? وفقًا لوصية يوسف ? أن يتحرّكوا و يتوجّهوا نحو مصر و تهيّأت مقدمات السفر من جميع النواحي ، و ركب يعقوب راحلته و شفتاه رطبتان بذكر الله و تمجيده ، و قد منحه عشق يوسف قوّةً و عزمًا إلى درجة و كأنه عاد شابًا من جديد .
و هذا السفر على خلاف الأسفار السابقة ? التي كانت مقرونة لدى إخوة يوسف بالقلق و الحزن ? كان خاليًا من أية شائبة من شوائب الهم و الغم . و حتى لو كان السفر بنفسه متعبًا ، فهذا التعب لم يكن شيئًا ذا بال قِبال ما يهدفون إليه في مسيرهم هذا .
كانوا يطوون الليالي و الأيام ببطء ، لأن الشوق كان يحيل كل دقيقة إلى يوم أو سنة ، و لكن انتهى كل شيء و لاحت معالم مصر و أبنيتها من بعيد بمزارعها الخُضر و أشجارها الباسقة السامقة و عماراتها الجميلة .
إلا أن القرآن الكريم ? كعادته دائمًا ? حذف هذه المقدّمات التي يمكن أن تدرك بأدنى تفكّر و تأمّل ، فقال في هذا الشأن :
﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ﴾ .
و أخيرًا تحقّقت أحلى سويعات الحياة ليعقوب ، و في هذا اللقاء و الوصال الذي تمّ بين يعقوب و يوسف بعد سنين من الفراقن مرّت على يعقوب و يوسف لحظات لا يعلم إلا الله عواطفها في تلك اللحظات الحلوة ، و أية دموع انسكبت من عينيهما من الفرح .
تعبير رؤيا يوسف .
و عندها التفت يوسف إلى إخوته و أبويه و . .﴿َ قَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ ﴾ .
لأن مصر أصبحت تحت حكم يوسف في أمن و أمان و اطمئنان .
و يُستشف من هذه الجملة أن يوسف كان قد خرج إلى بوابة المدينة لاستقبال والديه و إخوتهن و لعل التعبير بـ . .
﴿ دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ﴾ .
يحتمل أن يكون يوسف قد أمر أن تنصب الخيام هناك ( خارج المدينة ) و أن تُهيأ مقدّمات الاستقبال لأبويه و إخوته .
فلمّا دخلوا القصر أكرمهم يوسف عليه السلام . ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ﴾ .
و كانت هذه العظمة من النعم الإلهية و اللطف و الموهبة التي منّ الله بها على يوسف قد أدهشت إخوة يوسف و أبويه فذهلوا جميعًا .
﴿ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا ﴾ .
و عندها التفت يوسف إلى أبيه ، قال له .
﴿ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾ .
ألم يكن أني رأيت أحد عشر كوكبًا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين ؟!
فانظر يا أبت كما كنت تتوقّع من عاقبة أمري .
﴿ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ . . ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ﴾ .
الطريف هنا أن يوسف تكلّم عن سجنه في مصر بين جميع مشاكله و لم يتكلم على الجبّ مراعاة لإخوته .
ثم أضاف يوسف قائلاً :
﴿ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ﴾ .
و مرة أخرى يظهر هنا يوسف مثلاً آخر من سعة صدره و عظمته ، و دون أن يقول : من هو المقصّر ، و إنما يقول بصورة مجملة أن الشيطان تدّخل فنزغ بيني و بين إخوتي ، فهو لا يريد أن يتشكّى من أخطاء إخوته السالفة .
و التعبير عن أرض كنعان بالبدو تعبير طريف و كاشف عن مدى الاختلاف بين تمدّن مصر و تخلّف كنعان ( حضاريًا ) .
و أخيرًا يقول يوسف : إن جميع هذه المواهب هي من قِبَل الله ، و لِمَ لا تكون كذلك فـ . .
﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء ﴾ .
فيتولّى أمور عباده بالتيسير و التدبير . . و هو يعلم من المحتاج و من هو الجدير بالاستجابة .
﴿ إِنَّهُ هُوَ اْلعَليمُ الْحَكِيمُ ﴾ .
ثم يلتفت يوسف نحو مالك الملك الحقيقي وولي النعمة الدائمة فيقول شاكرًا راجيًا :
﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ﴾ .
و هذا العلم البسيط بحسب الظاهر ( تأويل الأحاديث ) كم كان له من أثر عظيم في تغيير حياتي و حياة جماعة آخرين من عبادك ، و ما أعظم بركة العلم !
فأنت يا رب :
﴿ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ .
و لذلك فقد خضعت و استسلمت قبال قدرتك جميع الأشياء .
ربّاه
﴿ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ .
أنت يارب مولى فى الدنيا و الاخرة ، يارب عندما تأمر بقبض روحى اكون على دينك و فطرتك الاسلام ، و اجعلنى الحق بالصلحين .
يا ترى ايه هيحصل مع يوسف عليه السلام بعد هذا القاء ؟ .
انتظروا الفصل القادم .
يتبع .
****************