رواية النار و الماء .
الفصل الرابع .
كانت بدايتها حلم ، حلمه طفل صغير ، و حكى ل والده ما رأه فى منامه ، و قال له ما رأه .
يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم :
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } .
يحكي الصبي الصغير لأبيه رؤياه . . أدرك يعقوب - عليه السلام - بحدسه و بصيرته أن وراء هذه الرؤية شأننا عظيما لهذا الغلام ، فغاية ما يحلم به الصغير أن تكون الكواكب بين يديه يلعب بها كيفما شاء ، أما أن يرها متمثلة في صورة ( العقلاء ) .
و تسجد له تعظيما ، لذلك نصحه بأن لا يقص رؤياه على إخوته خشية أن يستشعورا ما وراءها لأخيهم الصغير - غير الشقيق ، حيث تزوج يعقوب من امرأة ثانية أنجبت له يوسف و شقيقه - فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم ، فتمتلئ نفوسهم بالحقد ، فيدبروا له أمرا يسوؤه :
{ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } .
لقد أحس يعقوب - عليه السلام - و هو ابن إسحاق بن إبراهيم ، أن هذا الشأن متعلق بالدين و الصلاح ، فتوقع أن يكون يوسف هو الذي ستحل عليه البركة و تتمثل فيه السلسلة المباركة من بيت إبراهيم .
{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } .
كذلك يختارك ربك . . كذلك يصطفيك ، و معنى التأويل هو معرفة المآل ، و كشف النتيجة ، و إدراك أسرار لم تقع بعد . . فما الأحاديث ؟
قالوا إنها الرؤى و الأحلام ، سيستطيع يوسف فيما بعد أن يفسر الأحلام و الرؤى فيرى من رموزها الغامضة ما يقع من أحداث .
و قالوا إن الأحاديث هي الأحداث ، سيعرف مآل الأحداث التي تنتهي إليه من بداياتها و أوائلها ، سيلهمه الله إلهاما أن يعرف .
{ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
رد النبي العلم و الحكمة إلى الله في ختام حديثه ، فجاء ذلك مناسبا للبدء .
و في العلماء من يقول أن الآية السابقة ليست جزءا من حوار يعقوب مع ابنه يوسف . . و إنما هي ثناء من الله تعالى على يوسف .
أدخلت في نسيج القصة منذ بدايتها ، و هي ليست منها ، فالمفروض ألا يعرف يوسف و يعقوب تأويل الحلم و تفسيره منذ البداية ، و نحن نختار هذا الرأي ذهب إليه القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن .
و إذن نفهم الحوار فهما آخر ، إن الله يتحدث هنا عن اختياره ليوسف ، و هذا يعني نبوة يوسف . و ليس تعليمه تأويل الأحاديث ،
و إطلاعه على حقائق الرموز التي تقع في الحياة أو الحلم ، غير معجزات له كنبي . . و الله أعلم حيث يجعل رسالته ، تجد حكمته أسبابها ، و علمه محيط .
استمع الأب إلى رؤيا ابنه و حذره أن يحكيها لأخوته .
استجاب يوسف لتحذير أبيه . . لم يحدث أخوته بما رأى ، و أغلب الظن أنهم كانوا يكرهونه إلى الحد الذي يصعب فيه أن يطمئن إليهم و يحكي لهم دخائله الخاصة و أحلامه .
اجتمعوا اخوة يوسف يتحدثون فى امره .
{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ( 7 ) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( 8 ) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ( 9 ) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } .
تقول أوراق العهد القديم إن يوسف حدثهم عن رؤياه ، ولا يفيد السياق القرآني أن ذلك وقع ، و لو وقع لجاء ذكره على ألسنتهم .
و لكان أدعى أن يهيج حقدهم عليه فيقتلوه . لذلك لنبقى مع السياق القرآني .
( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) أي نحن مجموعة قوية تدفع و تنفع ، ف أبونا مخطئ في تفضيل هذين الصبيين على مجموعة من الرجال النافعين الدافعين !
اقترح أحدهم حلا للموضوع . .
{ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا } .
إنا الحقد و تدخل الشيطان ضخم حب أبيهم ليوسف و إيثاره عليهم حتى جعلها توازي القتل . أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله ، و طرحه في أرض بعيدة نائية مرادف للقتل ، لأنه سيموت هناك لا محاله .
و لماذا هذا كله ؟ !
حتى لا يراه أبوه فينساه فيوجه حبه كله لهم ، و من ثم يتوبون عن جريمتهم .
{ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ } .
قال قائل منهم - حرك الله أعماقه بشفقة خفية ، أو أثار الله في أعماقه رعبا مهولا من القتل .
قال هذا القائل : ما الداعي لقتله ؟ أنتم تريدون الخلاص منه . . تعالوا نلقه في بئر تمر عليها القوافل ، ستلتقطه قافلة و ترحل به بعيدا ، سيختفي عن وجه أبيه ، و يتحقق غرضنا من إبعاده .
انهزمت فكرة القتل ، و اختيرت فكرة النفي و الإبعاد .
نفهم من هذا أن الأخوة ، رغم شرهم و حسدهم الذى كان في قلوبهم ، أو في قلوب بعضهم ، بعض خير لم يمت بعد .
تمحور اخوة يوسف حول أبيهم ليطلبوا منه السماح ل يوسف لمرافقتهم .
{ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ( 11 ) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( 12 ) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ( 13 ) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ } .
دار الحوار بينهم و بين أبيهم بنعومة و عتاب خفي ، و إثارة للمشاعر .
{ مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ..؟ } .
أيمكن أن يكون يوسف أخانا ، و أنت تخاف عليه من بيننا ولا تستأمننا عليه ، و نحن نحبه و ننصح له و نرعاه ؟
لماذا لا ترسله معنا يرتع و يلعب ؟ أفضل لصحته الخروج و اللعب و الانطلاق ، انظر إلى وجهه الأصفر من فرط البقاء في البيت ، إن لون الطفل يشحب لأنه لا يمارس في طفولته اللعب .
وردا على العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب عليه السلام ينفي - بطريقة غير مباشرة - أنه لا يأمنهم عليه ، و يعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه و خوفه عليه من الذئاب :
{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } .
ففندوا فكرة الذئب الذي يخاف أبوه أن يأكله . . نحن عشرة من الرجال ، فهل نغفل عنه و نحن كثرة ؟ نكون خاسرين غير أهل للرجولة لو وقع ذلك ، لن يأكله الذئب ولا داعي للخوف عليه .
وافق الأب تحت ضغط أبنائه . . ليتحقق قدر الله و تتم القصة كما تقتضي مشيئته !
{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَـتُـنَـبِّـأَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } .
صحبوا يوسف في اليوم التالي و ذهبوا به إلى الصحراء ، اختاروا بئرا لا ينقطع عنها مرور القوافل و حملوه و هموا بإلقائه في البئر ، و أوحى الله إلى يوسف أنه ناج فلا يخاف ، و أنه سيلقاهم بعد يومهم هذا و ينبئهم بما فعلوه .
يا ترى ايه هيحصل مع سيدنا يوسف تانى ؟
انتظروا الفصل القادم .
يتبع .
***********